“رشيد نيني” وإسقاط الطائرة في حديقة التاريخ
جريدة النشرة : د . محمد إنفي
تقدم الموسوعة الحرة “ويكيبيديا” “رشيد نيني” كـ” صحافي وكاتب وإعلامي وناشر مغربي”. ويمكن أن نغني هذا التقديم “الأكاديمي” بإضافة صفة جديدة، قد ترفعه إلى مصاف “العباقرة” في زمانه؛ وهذه الصفة هي “مؤرخ التضليل”. وحتى يكتمل “البروفيل”، نقترح إضافة صفة (أو مهمة) “متعهد” الخدمات القذرة لفائدة الجهات ذات المصلحة. وفي هذا، يتساوى مع زميله وصديقه (قبل أن يصبحا عدوين لدودين لبعضهما البعض) توفيق بوعشرين.
فأما كصحافي، فأعرفه منذ كان يكتب في جريدة “الصباح”، قبل أن يصبح مديرا لجريدة “المساء”، ثم مالكا لجريدة “الأخبار”. وقد تكونت لدي قناعة بأن الرجل ليس مستقلا، كما يدعي، لا في تفكيره ولا في خط تحرير منبره، وإنما “عميل” لجهة أو جهات، يكون رهن إشارتها عندما تحتاجه ليقوم بالمطلوب. وما جعلني أصل إلى هذه القناعة، هو حصوله على بعض المعطيات (أو الوثائق) السرية والدقيقة التي من الصعب أن يصل إليها الصحافي اعتمادا فقط على مهاراته المهنية أو شبكات علاقاته العادية. فحين تكون الجهة التي يشتغل لحسابها في حاجة إلى كشف أسرار شخص ما، مثلا، لتشويه صورته أمام الرأي العام، فهي تمده بكل ما يلزم من المعطيات الدقيقة التي لا تتوفر إلا لتلك الجهة.
ومنذ إصداره ليومية “الأخبار”، وأنا أقتنيها يوميا مع جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، ليس حبا في ما يكتبه، ولا إيمانا بالشعار الذي تحمله جريدته “نأتيكم بالخبر اليقين”؛ وإنما رصدا لكتاباته المتحاملة على الاتحاد الاشتراكي، وتتبعا لخط تحرير جريدته القائم على الإثارة، على طريقة ما يسمى بصحافة الرصيف، لرفع المبيعات وتصفية الحسابات.
وهذا الرأي ليس لا تجنيا ولا تحاملا؛ وإنما مستخلص من كتاباته المغرضة. فبطريقة تذكرنا بأسلوب إسقاط الطائرة، يقحم الاتحاد وقادته في كل نقيصة يعرفها الحقل السياسي، سواء تعلق الأمر بتدبير الشأن العام أو بممارسة المعارضة (انظر، مثلا، مقالنا “هذا إلى «رشيد نيني»: نعم للنقد، لا للتغليط”، نشر بجريدة “الاتحاد الاشتراكي” بتاريخ 14 فبراير 2013).
وأبى رشيد نيني، في عموده ليوم الجمعة فاتح مارس 2019، بعنوان “دخول الصحة”، إلا أن يسقط الطائرة، هذه المرة، في حديقة التاريخ. وما أدراك ما حديقة التاريخ ! وخاصة، تاريخ المغرب ما بعد الاستقلال.
وقبل أن يسقط طائرته، مهد للعملية بالركوب على ما جاء في رسالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في القمة العربية الأوروبية بشرم الشيخ بمصر العربية، حول التدخل الخارجي في الشأن الداخلي للدول العربية. وقد اغتنم “مؤرخ التضليل” هذه الفرصة للانقضاض على تاريخ الاتحاد الوطني/الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والنهش فيه، على طريقة الكواسر الجائعة، معتمدا، في ذلك، على قلب الحقائق وتزييف الوقائع وخلط الأوراق، إما استجابة لرغبة الذين يوظفونه لأجل هذه المهام القذرة، أو تلقائيا من ذاته، طمعا في رضاهم وإرضاء لنفسه الخبيثة، في نفس الآن.
وقد جعل الحقود نيني ما جاء في الرسالة الملكية (“ما يواجهه العالم العربي، يقول محمد السادس، من تحديات خطيرة تهدد أمنه واستقراره، راجع أحيانا، إلى سياسات وسلوكيات بعض بلدانه تجاه البعض الآخر. وفي هذا الصدد، نشدد على أن القضاء على هذا التهديد يظل رهينا بالالتزام بمبادئ حسن الجوار، واحترام السيادة الوطنية للدول ووحدتها الترابية، والتوقف والامتناع عن التدخل في شؤونها الداخلية”) ذريعة لتصفية حساباته مع التاريخ النضالي الحافل لليسار المغربي (وفي طليعته الاتحاد الوطني/الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) الذي قدم تضحيات جسام دفاعا عن الديمقراطية. وقد مهد لذلك بقوله: “ليست هناك دولة عربية عانت أكثر مما عانى المغرب من التدخل الأجنبي في شؤونه الداخلية، وليس اليوم فقط بل منذ استقلاله”.
وفي تنكر تام لأخلاقية المهنة ولقيم الموضوعية والنزاهة الفكرية، قام نيني، وبكل وقاحة، باختزال تقرير الخمسينية – الذي انخرط في إعداده ما يفوق مائة من الخبراء والكفاءات الجامعية والإدارية وفعاليات المجتمع المدني- في جملة واحدة، يفتري فيها، من جهة، على معدي التقرير؛ ومن جهة أخرى، على التاريخ، حيث قال: “وإذا كانت هناك خلاصة يمكن أن نخرج بها من تقرير الخمسينية، الذي كان أعده المستشار الراحل مزيان بلفقيه، فهي أن صراع اليسار بكل فصائله مع القصر ضيع على المغرب أكثر من ثلاثة عقود”.
لا يحتاج المرء إلى ذكاء لإدراك مقصود صاحب هذا الكلام من هذا الاختزال الشديد والكذب الصُّراح. فهو يحمل مسؤولية الصراع كاملة لليسار، ويبرئ، بكل وقاحة، الطرف الآخر. ورغم أنه لم يذكر بالاسم الاتحاد الوطني/ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فهو المقصود بالأساس؛ خاصة وأنه أتى على ذكر أسماء قياديين اتحاديين تاريخيين بارزين، دون غيرهم. ويتعمد نيني الوقوف عند “ويل للمصلين” في حديثه عن الفترة المعروفة، الآن، في الأدبيات السياسية بسنوات الجمر والرصاص.
لنقف قليلا، إذن، عند هذه الفترة ولنسم الأشياء بمسمياتها. لقد خاض الاتحاد الوطني/ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية صراعا مريرا مع النظام المستبد في عهد الحسن الثاني. وكان الاتحاد يناضل من أجل تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهذا معطى تاريخي لن تغيره لا افتراءات نيني ولا أضاليله. وقد تم توثيق وحشية النظام في تلك الفترة كتابة وبالصوت والصورة من قبل هيئة الإنصاف والمصالحة.
وهذا ما يفند ادعاءات نيني ومحاولته تبرير القمع الهمجي ضد المعارضة بقوله: “وكأي ملك تعرض لمحاولات متكررة لتصفيته وتصفية عائلته، تحول الحسن الثاني من ملك يبحث عن بناء دولته إلى ملك يبحث عن حماية نفسه وعرشه من الوقوع بين أيدي معارضيه الشرسين، الذين وصل بهم حقدهم على النظام إلى حد وضع أيديهم في أيدي خصوم المغرب في الجزائر وليبيا وسوريا وتسلموا من أنظمتها الحقائب المملوءة بالأموال، ولجؤوا إلى حضنها عندما حرك الحسن الثاني ضدهم آلة القمع الجهنمية للدولة”.
لا أعتقد أن السفاح أفقير والثعلب اكديرة وكل جلادي عهد الحسن الثاني كانوا سيقولون غير هذا في تبرير أفعالهم الشنيعة في حق المعارضة التي كانت تطالب بالتغيير وبالديمقراطية من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
أليسوا هم من حاولوا اغتيال المهدي بنبركة في سنة 1962 عن طريق افتعال حادثة سير بين الرباط والدار البيضاء؟ أليسوا هم من بعثوا، في مطلع سنة 1973، طردا ملغوما لكل من الشهيد عمر بنجلون ومحمد اليازغي (الذي أصيب بجروح خطيرة كادت تودي بحياته) بهدف اغتيالهما؟ ألم يتم إرسال طرد ملغوم في نفس الوقت ومن نفس الجهة إلى محمد الدويري الذي كان يعتبر زعيم الجناح الراديكالي داخل حزب الاستقلال؟ أليس القمع الوحشي وفبركة الملفات الخطيرة للمناضلين والقياديين في الاتحاد لتقديمهم لمحاكمات صورية والزج بهم في سجون النظام، هو ما دفع العديد منهم للبحث عن سبل الإفلات بجلودهم، لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، واللجوء إلى دول الجوار أو إلى بعض الدول الغربية؟
ألا يعرف الأفاك نيني أن القادة الاتحاديين الذين لجئوا إلى الجزائر، غادروها عندما حاول النظام الجزائري في عهد بومديان أن يوظفهم ضد مصالح وطنهم ولجئوا إلى فرنسا وغيرها من الدول الغربية؟ ثم، في إطار الصراع، ألم يكن من حق المنفيين، قسرا أو إراديا، أن يفضحوا بكل الوسائل وحشية النظام في تلك الفترة؟
في سنة 1975 عقد الاتحاد مؤتمرا استثنائيا، واختار، خلاله، إستراتيجية النضال الديمقراطي للخروج من وضعية الشلل الذي أصاب تنظيماته بفعل الأحداث الأليمة التي ذكرنا بعضها في هذا المقال. ودون أن يتنكر لماضيه ولا أن يتبرأ من مغامرات بعض مناضليه بفعل اليأس والإحباط الذي أصابهم في غربتهم بسبب تنكر النظام لمطلب الحرية والدمقرطة، مارس الاتحاد، بمناسبة هذا المؤتمر، نوعا من المراجعة للخط السياسي وللتوجه الإيديولوجي، فكان الاختيار الإستراتيجي، الذي هو النضال الديمقراطي.
لم ينته صراع الاتحاد مع الاستبداد بهذا الاختيار الإستراتيجي؛ بل بقيت جذوته متقدة. وسوف تلتهب أكثر بعد أن طالب الاتحاد الاشتراكي بالملكية البرلمانية في مؤتمره الثالث سنة 1978. وهكذا، استمرت الدولة في فبركة الأحزاب الإدارية وتزوير الانتخابات لفائدتها ضدا على الإرادة الشعبية، فتضررت أحزاب الصف الديمقراطي من هذا التدخل البشع للسلطة في تشكيل الخرائط التمثيلية، محليا ووطنيا. وكان حجم التزوير ضد الاتحاد الاشتراكي يفوق كل التصورات. كما أن قمع الاحتجاجات لم يتوقف والمحاكمات الصورية لم تنته. ونصيب الاتحاد من كل هذا كان دائما وافرا.
ويجدر بنا أن نذكر نيني وأمثاله، الذين يشكل لهم تاريخ الاتحاد غصة في حلوقهم، بأن الصراع لم يكن لا من أجل السلطة ولا من أجل المناصب، كما يزعم نيني؛ بل كان من أجل الديمقراطية ومن أجل العدالة الاجتماعية؛ أي من أجل الوطن. والدليل القاطع، هو أن الملك الراحل، الحسن الثاني، بعد أن فشل ما كانت أبواق النظام والمستفيدون من الوضع يسمونه بالديمقراطية الحسنية، لم يجد من جهة قادرة على إنقاذ المغرب من السكتة القلبية التي كانت تتهدده، في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، بسبب سوء التدبير وسوء التقدير، إلا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؛ هذا الاتحاد الذي عانى الأمرين مع التسلط والاستبداد. ومع ذلك، لم يتأخر حين تطلب الأمر تقديم مصلحة الوطن على مصلحة الحزب.
ولذلك، فإن كلام نيني (“وعندما فهم الباحثون عن السلطة أن الطريقة الوحيدة لتذوق عسلها هو التخلي عن أحلامهم الثورية وتغيير البندقية من كتب إلى كتف، جلس قادتهم إلى طاولة المفاوضات مع الدولة وغادر مناضلوهم السجون وعادوا من المنافي البعيدة وتسلموا الحقائب والكراسي التي كانوا يحلمون دائما بوضع مؤخراتهم فوقها، واستطاعوا أخيرا أن يمارسوا سلطة ‘الحكم’ داخل نطاق المؤسسات الرسمية التي أسندت إليهم مسؤولية تسييرها”) كلام كله باطل في باطل، ويكذبه التاريخ والواقع؛ لكنه، بأسلوبه ومحتواه، يدل على خسة وحقارة صاحبه ويفضح نواياه الخبيثة.
لنعد قليلا إلى الوراء لاستنطاق بعض الوقائع التاريخية التي يجهلها أو يتجاهلها رشيد نيني لطمس أهميتها في فهم خلفيات الصراع بين اليسار، وأساسا الاتحاد الوطني/الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبين القصر في عهد الحسن الثاني. وهي وقائع ثابتة ولا تحتاج إلى تمحيص أو تدقيق.
لقد مهد إعفاء حكومة عبد الله إبراهيم إلى هذا الصراع وأطلق شرارته الأولى بفعل أهدافه المعلنة وغير المعلنة. وقد كان هذا الإعفاء- الذي سعى إليه بكل إصرار ولي العهد آنذاك، الأمير الحسن، ضدا على إرادة محمد الخامس ورغبته – كان اغتيالا للأمل في دمقرطة الدولة المغربية وتحديثها. ويشهد التاريخ أن حكومة عبد الله إبراهيم، رغم قصر عمرها (20 شهرا)، قد اتخذت قرارات حاسمة في الميدان الاقتصادي، وفتحت أوراشا مصيرية في تاريخ الشعب المغربي، عاشت على مردودها الحكومات المتعاقبة. ولم تستطع أية حكومة، لا قبلها ولا بعدها، من تحقيق منجزات في مستوى ما حققته تلك الحكومة، إلى أن جاءت حكومة عبد الرحمان اليوسفي، التي فتحت، بدورها، أوراشا كبرى أنقذت البلاد من السكتة القلبية، وأنعشت الاقتصاد الوطني. ولا يزال تأثير منجزات حكومة اليوسفي قائما إلى اليوم، رغم أن حلم التناوب الديمقراطي قد أجهض في سنة 2002.
وإذا كان نيني جاهلا بتاريخ الصراع بين اليسار والقصر، ويردد مثل الببغاء ما يلقن له، فعليه أن يعرف أن الصراع بين القوى الديمقراطية والنظام، ازداد حدة وتصعيدا بمناسبة الاستفتاء على أول دستور في البلاد سنة 1962. وقد قاطع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هذا الدستور باعتباره دستورا ممنوحا يكرس الحكم الفردي والتسلط والاستبداد. وساهم في هذه المقاطعة الحزب الشيوعي المغربي والحزب الديمقراطي الدستوري؛ كما أن الاستجابة لها كانت قوية، حيث انخرطت فيها فئات واسعة من الشعب المغربي، خاصة في المدن. وهو ما جعل النظام يفكر في كيفية تحجيم هذا المد الشعبي، خاصة وأن البلاد كانت مقبلة على انتخابات تشريعية.
وللتحكم في خيوط اللعبة، سوف يؤسس أحمد رضا اكديرة، وهو مدير عام للديوان الملكي، حزب جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، المعروف اختصارا بـ”الفديك” (FDIC)، ليحتل المرتبة الأولى (69 مقعدا)، بعد بضعة أشهر من تأسيسه، في الانتخابات التشريعية الأولى التي عرفها المغرب سنة 1963؛ لكنه لم يحصل على الأغلبية المطلقة، رغم الدعم السياسي والمادي والإعلامي من الحكم ورغم الدعم الكبير للسلطة والتزوير لصالحه؛ في حين حصل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على نتائج مشرفة(29 مقعدا) بالرغم من كل أشكال التزوير التي عرفتها تلك الانتخابات (وقد كان من بين ضحاياه المجاهد عبد الرحمن اليوسفي في طنجة)، وبالرغم من كل الضغوطات السياسية والإدارية وغيرها، التي مورست في حق المناضلين.
وهذا ما دفع النظام إلى الرفع من درجة القمع ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من أجل إنهاء وجوده في الساحة السياسية. ففي 16 يوليوز 1963- عندما كانت لجنته المركزية مجتمعة بمقر الحزب بالدار البيضاء، من أجل التقرير في موضوع المشاركة أو عدم المشاركة في الانتخابات الجماعية التي كان مقررا لها تاريخ 28 يوليوز 1963، خاصة وأن النظام كان قد شن حملة واسعة من الاعتقالات في صفوف مرشحي الحزب- داهمت الشرطة مقر الحزب واعتقلت من فيه. ثم شنت حملة اعتقالات بمختلف الأقاليم. وتم، تحت التعذيب والتزوير، طبخ ملفات لأغلبهم بتهم خطيرة وصلت عقوبة بعضها إلى حد المؤبد والإعدام.
ولتبرير هذه الحملة الشرسة والقمع الهمجي ضد الحزب، عمل النظام على عكس الآية، فجعل المؤامرة التي حيكت ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من أجل استئصاله من الساحة السياسية، جعلها “مؤامرة” ضد النظام، حيث اتهم فيها عدد كبير من قيادات الحزب، بمحاولة قلب النظام والتآمر مع الجزائر ضد المصلحة العليا للبلاد. أتذكر، وأنا يافع آنذاك، بلاغا صدر في هذا الشأن على أمواج الإذاعة.
ويحكي الأخ عبد الواحد الراضي، في سيرة حياته بعنوان المغرب الذي عشته، كيف أن، بمناسبة ملتمس الرقابة الذي قدمه فريق الاتحاد (سنة 1964)، عقب “مؤامرة 1963″، كان الملك الحسن الثاني يقود اجتماعات الفريق الحكومي (حكومة الحاج أحمد باحنيني) لإعداد الردود ومواجهة معسكر المعارضة. يقول عبد الواحد الراضي:”… أعضاء الحكومة كانوا يلتقون تحت الرئاسة الفعلية للملك الحسن الثاني، بينما كانت اجتماعات فريقنا تتم في بيت سي محمد الحبابي غالبا بإدارة وتوجيه الأخ عبد الرحمن اليوسفي. وفي تلك الاجتماعات الصباحية، كان كل معسكر يهيئ الردود والحجج والضربات التي سيوجهها إلى المعسكر الخصم” (المغرب الذي عشته’ ص.638).
بالطبع، كان الفريق الحكومي وأغلبيته البرلمانية يحاولون، بتوجيه من الملك، ربط ملتمس الرقابة بخدمة جهات خارجية؛ لكن التدخلات القوية للفريق الاتحادي عرَّت الخلفيات الحقيقية للصراع وبينت كذلك ضعف وهشاشة الفرق البرلمانية الموالية للنظام.
وسوف يظهر هذا في خطاب الملك الحسن عند تبريره لحل البرلمان وإعلان حالة الاستثناء سنة 1965 (شهران بعد الأحداث المؤلمة التي عاشتها الدار البيضاء في مارس من نفس السنة). يقول الحسن الثاني، في معرض خطابه للأمة لشرح دواعي هذا القرار: “…لم نجد الأغلبية العددية التي تكون الأداة البرلمانية اللازمة لقيام حكم مستقر. وبدون الائتلاف الوطني وأمام عدم توفر البرلمان على أغلبية، وجدنا أنفسنا أمام خيارين.اختيار الوفاء لفضيلة الديمقراطية، التي اعتبرناها دائما أفضل السبل وأجدى طريقة للعمل. واختيار نظام تمثيلي يتسم بطابع الجدل البرلماني غير المثمر، ويضر، لو تمادى، بالديمقراطية نفسها…”
هذه بعض المعطيات حول الصراع بين اليسار والقصر، والأصح بين الحركة الديمقراطية والاستبداد. وما هذا إلا غيض من فيض. فكم هو مخجل الاختزال الذي اقترفه نيني في حديثه عن هذا الصراع! ويالها من خسة في اتهام الوطنيين بالتآمر مع الخارج لقلب نظام الحكم في المغرب !! وكأني بنيني أحمد رضا اكديرة، وهو يرافع، في برلمان 1963، ضد ملتمس الرقابة الذي تقدم به الفريق الاتحادي، محاولا التنقيص من قيمته باتهام أصحابه بخدمة جهات خارجية.
لا شك أن تلامذة اكديرة (وكذا أوفقير والبصري) لا يزالون يمارسون نفس الأسلوب في السياسة، رغم اختلاف الظروف. ومن دون شك، أيضا، أنهم موجودون في محيط “المخزن”، بهذه الصورة أو تلك، مع هذه الجهة أو تلك. لذلك، لا أستبعد أن يكون نيني “عميلا” لهؤلاء أو للبعض منهم، مهمته تشويه تاريخ الحركة الديمقراطية بالمغرب، خاصة وأنه لا يتوانى في التنقيص من قيمة الأحزاب السياسية، ويضعها كلها، بدون استثناء، في سلة واحدة.
وكم أجد نيني تافها وحقيرا ونذلا… في سعيه إلى النيل من عريس الشهداء، المهدي بنبركة، اعتمادا على أحد عملاء الموساد !! هذا الجهاز المخابراتي الصهيوني الذي له يد في اختطاف المهدي. وقد مهد صاحب جريدة “الأخبار” لفعلته الشنيعة هذه باتهام اليسار المغربي بـ”العمالة” للخارج، حيث قال: “فقد أظهرت التجربة(كذا) أن أغلب هؤلاء اليساريين…كانوا يعارضون الحسن الثاني بإيعاز من أنظمة وزعماء دول عربية ويطالبون بتغيير النظام طمعا في مقاعد السلطة. فداخل كل زعيم من هؤلاء الزعماء كان يختفي ديكتاتور صغير يسعى إلى أن ينفرد بالحكم لكي ينتقم من خصومه”.
بعد هذا، يأتي الحقير والحقود نيني إلى هدفه “الأسمى”؛ ألا وهو محاولة زرع الشك في مسار وسيرة المهدي بنبركة، حيث كتب يقول: “وفي شريط تاريخي نادر(كذا) يتحدث بعض عملاء الموساد حول ظروف اختفاء بنبركة وحكى أحدهم (كذا) أن جمال عبد الناصر كان يخطط لاغتيال الحسن الثاني من أجل أن يكون بنبركة زعيما في المغرب ضمن مخطط الأممية الاشتراكية”.
فهنيئا لبلادنا بميلاد “مؤرخ عبقري” استطاع أن يصل إلى “حقيقة” بنبركة، “المتآمر” على بلاده مع الخارج من أجل الزعامة !! يمكن، الآن، للسفاح محمد أفقير أن ينام “قرير العين” في قبره بعد أن أوجد له “كاري حنكو” مبررا كافيا لاغتيال عريس الشهداء، المهدي بنبركة الذي لم يفلح في الوصول إلى كل الحقيقة حول اغتياله لا القضاء الفرنسي ولا هيئة الإنصاف والمصالحة ببلادنا ولا المجلس الوطني لحقوق الإنسان ولا المؤرخون المهتمون بقضيته.
فبماذا يمكن أن نصف أقوال نيني؟ هل هي تعبير عن جهله بقيمة الرجل ومكانته في تاريخ الكفاح الوطني والبناء المؤسساتي ببلادنا؟ أم أن الأمر يتعلق بتزوير التاريخ وتشويه صورة أحد عظماء هذه البلاد، لحساب جهة ما؟
هل يعرف هذا القزم أن بنبركة لم يكن في حاجة لا لجمال عبد الناصر ولا لغيره ليكون زعيما؟ فالزعامة صنعها بنضاله الوطني والتزامه السياسي ووفائه لوطنه. وقد كان زعيما وطنيا وزعيما أمميا. لقد فاوض فرنسا، ضمن الوفد المغربي، من أجل الاستقلال وعودة الملك الشرعي إلى عرشه. وبعد الاستقلال، كان رئيس أول مؤسسة برلمانية ببلادنا (المجلس الاستشاري)؛ وأشرف على الورش الكبير الذي عرفه المغرب المستقل؛ وهو بناء طريق الوحدة الذي له رمزية وطنية وسياسية كبيرة، كما شرح ذلك بنفسه في إحدى جلسات تأطير الشباب المشارك في ذلك الورش…
أما أمميا، فقد تجلت زعامته في اختياره كرئيس للجنة التحضيرية لمؤتمر القارات الثلاث، الذي كان مقررا أن ينعقد في هافانا خلال يناير 1966. وبفعل نشاطه الدؤوب و سعيه الحثيث إلى تحرير الشعوب المضطهدة من الاستبداد ومن هيمنة الاستعمار الجديد، فقد تكالبت عليه قوى الشر الداخلية والخارجية، وتم اغتياله، في أكتوبر1965، وهو في عز التحضير للمؤتمر المذكور.
فكم أنت صغير، يانيني، أمام قامات اليسار المغربي، وأنت تسقط طائرتك المهترئة، في حديقة التاريخ، على رؤوسهم الشامخات !!! فإن كانت صفقة بينك وبين الحاقدين على الماضي النضالي لهؤلاء، فقد خسئت وخسئ شركاؤك. لقد تناثرت أشلاؤكم في الهواء قبل أن تصل طائرتكم إلى الأرض. وإن كانت “مبادرة” شخصية تلقائية، فانتظر بعض الفتات من الجهات التي تعرفها جيدا، جزاء لك على “استماتتك” في تبخيس العمل السياسي وتحقير النضال الحزبي من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.