في الفرق بين الدفاع عن المنهجية الديمقراطية والاستقواء بالأصوات الانتخابية
جريدة النشرة : د. محمد إنفي
لقد أوحت لي بهذا الموضوع “رسالة الاتحاد” ليوم السبت 20 أبريل 2019 (جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، عدد 12.216). ومن خلال هذه الرسالة، يُستشفُّ أو يُستنتج أن حزب العدالة والتنمية ذاكرته ضعيفة وفهمه محدود وأفقه ضيق وثقافته السياسية ضحلة؛ لذلك، فهو يحتاج إلى كثير من الدروس في التاريخ وفي السياسة.
فمن حيث التاريخ، فعليه، على الأقل، أن يدرس بعناية نضالات أحزاب الحركة الوطنية، الديمقراطية والتقدمية، ليعرف حجم تضحيات هذه الأحزاب، وفي طليعتها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في نضالها ضد الاستبداد من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان الفردية منها والجماعية؛ أما من حيث السياسة، فيحتاج إلى دروس نظرية وتطبيقية تستلهم تجارب الشعوب التي سبقتنا إلى الديمقراطية من أجل فهم معناها وإدراك معنى المنهجية الديمقراطية، لعلَّ قادته يكتسبون، بذلك، شيئا من قيمة التواضع بعد أن يفهموا ميكانيزمات الفعل السياسي وأصوله.
ويكفي أن يطَّلعوا على التجربة الإسبانية أو الألمانية، على سبيل المثال لا الحصر، ليفهموا الأبجديات الأساسية في التعامل مع الخصوم السياسيين وليستوعبوا المعنى الحقيقي للسياسة وللديمقراطية. وبكل تواضع، أحيلهم على “الدرس الألماني في مفهوم الديمقراطية وفي تدبير المفاوضات السياسية”(محمد إنفي، “الحوار المتمدن”، بتاريخ 15 فبراير 2018).
لن أخوض في المفاهيم وفي التعاريف؛ بل سوف أقصر اهتمامي على مفهوم حصري للديمقراطية، وهي الديمقراطية التمثيلية. والديمقراطية، بهذا المعني، تعني التعددية الحزبية، أو على الأقل الثنائية القطبية، كما هو الأمر، واقعيا، في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
في المغرب، لن يستقيم الحديث عن الديمقراطية التمثيلية إلا باستحضار التعددية. ودون الحديث عن التمييع والتشويه الذي تعرضت له التعددية الحزبية في بلادنا، فإن تجربتنا الديمقراطية الفتية، لن تكفل لأي حزب الهيمنة، مهما كانت قوته الانتخابية، إلا إذا وصلت هذه القوة درجة حصوله على ما يكفي من الأصوات ومن المقاعد في البرلمان لتشكيل الحكومة بمفرده. لكن هذا لا يحصل، في الواقع، إلا في البلدان ذات الأنظمة الشمولية؛ أما في البلدان الديمقراطية القائمة على التعدد، فنادر الوقوع أو ربما منعدم.
لقد ذكَّرت “رسالة الاتحاد” أصحاب الذاكرة الضعيفة بـ”مؤامرة” الأحزاب المحافظة الثلاثة- حزب الاستقلال (صاحب شعار “أمولا نوبة”) والحركة الشعبية والعدالة والتنمية- ذكرت بمؤامرتهم على مبدأ المنهجية الديمقراطية، حين شكلوا، بعد انتخابات 2002، تحالفا استباقيا للضغط على الدولة وممارسة الابتزاز، قبل أن يعين الملك الوزير الأول المنتظر. والهدف كان هو قطع الطريق أمام اليوسفي (ربما بإيعاز من جهة ما في الدولة، كان يزعجها هذا الأخير بصرامته واستقامته وزهده وشروعه في محاربة الفساد…) الذي تصدر حزبه نتائج الانتخابات التي لم يتم الطعن فيها، لأول مرة في مغرب ما بعد الاستقلال، نظرا لشفافيتها ومصداقيتها.
وبدل تكليف الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي بتشكيل الحكومة، حسب الأعراف الديمقراطية التي حرص اليوسفي على استنباتها على أسس صحيحة، تمت المناداة على السيد إدريس جطو كتقنوقراطي؛ مما دفع المكتب السياسي للاتحاد إلى إصدار بيانه الشهير حول الخروج عن المنهجية الديمقراطية.
فلو كان قد تم تكليف اليوسفي (أو شخصية أخرى من نفس الحزب) وفشل في تشكيل الحكومة لسبب من الأسباب، فلن يكون هناك أي مجال ولا مبرر للحديث عن الخروج على المنهجية الديمقراطية، عند تعيين شخص آخر من حزب آخر؛ وليكن من الثلاثي المتحالف ضد اليوسفي؛ أما والحال أن شيئا من هذا لم يحدث، فإن القرار كان معيبا ديمقراطيا، وإن كان صحيحا دستوريا.
ويجب أن يعرف الذين يتباكون اليوم عن المنهجية الديمقراطية أنهم هم من طعنوها من الخلف ومن الأمام في 2002؛ وقد كان دور حزب العدالة والتنمية أساسيا في “تأمين الخروج عن المنهجية الديمقراطية” و”تصريف موقف التعطيل من خلال تشكيل تحالف ثلاثي أصدر البيان “التاريخي’ في التهديد بالدخول في أزمة سياسية.. مع حزبي الاستقلال والحركة الشعبية، إذا ما تم تعيين اليوسفي، أي بلغة أخرى، إذا ما تم احترام المنهجية الديمقراطية !!!”(“رسالة الاتحاد”).
ويبدو أن موقف النائحين الجدد على المنهجية الديمقراطية مرده إلى النقاش الدائر حاليا حول التعديلات الدستورية. ويجب أن يعرف هؤلاء المتخوفون من النقاش الدستوري أن الفضل في دسترة المنهجية الديمقراطية، يعود إلى الاتحاد الاشتراكي الذي قدم بمفرده سنة 2009، قبل الانتخابات الجماعية، مذكرة حول الإصلاحات الدستورية، ومن ضمنها مطلب تكريس المنهجية الديمقراطية. كما أن للاتحاد الاشتراكي دور كبير في التنصيص، في قانون الأحزاب، على منع تلك الظاهرة المشينة والمسيئة للمؤسسات التمثيلية؛ ألا وهي ظاهرة الترحال السياسي التي كانت تغير الخريطة التمثيلية على الصعيد الوطني أو المحلي بين عشية وضحاها.
وذا كان ما يزعج النائحين الجدد على المنهجية الديمقراطية، هو المطالبة بتعديل الفصل 47 من الدستور، فإن الاتحاد لا يطالب بهذا فقط؛ بل يطالب بتعديل كل فصل أبانت الممارسة أن به عيوبا تستوجب التعديل. أما الفصل 47، فهو من الأولويات لأن بسببه تم إدخال البلاد في عبث سياسي صبياني عطل مصالح البلاد والعباد لأكثر من نصف سنة بسبب الفهم الخاطئ للديمقراطية وللمنهجية الديمقراطية. ولا يجب أن يُفسح المجال، دستوريا، لمثل هذا العبث مستقبلا.
ويبدو أن المتباكين على المنهجية الديمقراطية لا يستحضرون متغيرات الواقع السياسي ولا يأخذون بعين الاعتبار تغيير الناخبين لرأيهم بسبب التدبير السيئ لمصالحهم من قبل المنتخبين. صحيح أن تشتيت الأصوات الانتخابية بفعل التعددية الحزبية المصطنعة (دكاكين سياسية) يصب في صالح محترفي “الرشوة الانتخابية” المتدثرة بالإحسان والتي تضمن لهم أصواتا قارة، لكن الطبقة المتوسطة إذا ما فهمت رهان المشاركة واستحضرته بجد، سوف تقلب كل الحسابات. ولن يبقى، بعد ذلك، مجال للاستقواء بالأصوات الانتخابية، كما هو الحال الآن.
على العموم، الديمقراطية، في مفهومها العام، هي كالعلم؛ ليس لها سقف. فمهما بلغت من تطور ونضج، تبقى “أقل أنظمة الحكم سُــوءا”. وفي الديمقراطيات الناشئة، كحال ديمقراطيتنا، فإن الطريق ما يزال محفوفا بالكثير من المطبات، ومنها العقلية غير الديمقراطية التي ترعاها حركة التوحيد والإصلاح ومثيلاتها.