عن أي نوع من المنصفين سيراهن المغرب بعد انتهاء الجائحة ؟
د. عبد اللطيف سيفيا
بقية الحديث … قد يبدو للوهلة الأولى من قراءة العنوان أننا سنقحمكم في المزيد من الحديث عن جائحة فيروس كورونا المستجد وتبعاتها التي أسالت أنهارا من المداد ، وتهرأت معها لوحات الرقمنة ، لتصير حروفها ورموزها ممسوحة المعالم …
لا ، ليس هذا قصدي لأن هذه الجائحة التي تدور في خلد القارئ هي عبارة عن ظاهرة صحية ، كيفما كانت طبيعية أو مفتعلة ، وقد تحل علينا ضيفا خفيفا وزائرا عابرا يمكنه أن يغادر بين الفينة والأخرى مخلفا آثارا وجروحا يمكن التئامها بشيء من الصبر ومع حيز من الزمن المناسب وبقدر من العمل في التقويم و الترميم والتصحيح ، فيتلاشى حضورها في الأذهان وتصبح من حكايات الأمس التي سيتم ترسيخها عبر إدراجها ضمن مقررات التعليم وتدابير الحياة ، وإعطاؤها صفة الأهمية للعبرة والاعتبار ، أم ستحال على رفوف الإهمال ليغطيها غبار النسيان الملفوف بالسذاجة والبلادة والغباء حتى تمسح معالمها وآثارها فتقبر في لحود الظلمات … وكل هذا جائز التجاوز .
لكن ما نحن بصدد الكلام عنه هو أمر أشد مرارة وقسوة وخطورة على البلاد والعباد ، ويتعلق بجائحة من نوع آخر حلت بنا ونحن على وعي تام بها ونغض الطرف عنها ، إن لم أقل بالعديد من الأمم و الشعوب والدول ، لتفتك بها شر فتك و تقلب شأنها رأسا على عقب ، و تبيح المحرمات و تحرم المبيحات و تسعى في التفرقة و نسف الجموع ، و تبادر إلى إشاعة الكذب و البهتان و ضرب الصدق و اليقين …
إنها جائحة الفساد ، أيها السيدات و السادة ، التي حلت بنا و بمجتمعاتنا و لم تعد تقبل أو تحتمل فراقها لدرجة قوة ارتباطها بها ، خصوصا بعد تبنيها من طرف جهات معينة ، لأنها وجدتها مرتعا مناسبا لنموها و تغولها بطريقة سريعة و مريبة ، تجعل المنصف الجشع يتقوى مسنودا بالسنائد والسندات والفصول والبنود والمساطر و القواعد القانونية والشرعية وهلم جرا…وهلم جرا…إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، إيوا فكها يا من وحلتيها ، ودخلنا في حيص بيص ، فهذا جائع لا يجد ما يسد به رمقه ، وذاك مريض أنهكه الألم وقصر اليد ، وذاك طالب سدت في وجهه الأبواب ، وذاك عازب ضاعت حياته بين الأزقة و الدروب ، وذاك عامل يلاحق لقمة عيش أسرته بين مطرقة الصبر و سندان الطرد التعسفي من العمل، وتلك شابة تضطهد في الدراسة و الشغل والمضجع وتساوم بأبشع المواقف والتصرفات غير الأخلاقية واللاإنسانية ، وتلك أم تعارك الحياة وتصارعها من أجل ضمان حضن دافئ لفلدات كبدها ، وذلك مستثمر غامر بأملاكه وتعب السنين وشقائها لتستحوذ لوبيات المال والأعمال على أحلامه وتجعله تحت رحمتها . وذاك مثقف لم يجد بدا من الانزواء بين سطور كتبه ومؤلفاته الخجولة المرتعشة الملازمة للظل حتى تأكلها الأرضة ، وذاك مخترع ذاق الخصاص و الويل والتضييق فأصبحت إبداعاته خردة يبكي على حالها وحاله …
كل هذا لأن حظنا قد أنصفنا بمنصف ومنصف ومنصف وكثير من منصف غير منصف ، فكانت الطامة الكبرى ، وما أدراك ما هي ! بلد تكالبت عليه الكلاب الضالة القذرة ، ولم تترك للأخيار فيها فجوة ، فما العمل في القضية ؟ أليس من حقنا أن نحظى بمنصف حقيقي لإنصافنا بإنصافه ، وليس لمنصف لنصفنا في حقوقنا ومكتسباتنا .
فكفانا من المنصفين الناصفين الذين قضوا ظهورنا وشقوا صدورنا وأحرقوا قلوبنا واغتصبوا حقوقنا وطمسوا معالم هويتنا . وإلينا بمنصف ينصفنا ويرعى أمورنا ويحافظ على كرامتنا ويدافع عن رموز بلادنا التي نجملها في شعارنا الخالد ” الله – الوطن – الملك ” التي لن نتخلى قط عنها رغم كيد الكائدين المحيطين بنا وبها.
ولن نستسلم مهما كان أو نسلم في شبر من أرضنا أو قيد أنملة في مستحقاتنا وكرامتنا التي من أجلها نضحي بالغالي والنفيس ونموت دفاعا عنها، وبها نعيش وونحيا ونتنفس هواء الحرية ونستشرف الأمل.
فهذا هو المنصف الذي نريد أن يراهن عليه المغرب بعد جائحة المنصف الناصف والفاسد والظالم والمتجبر والقاهر الذي اتنسخ في بلادنا بدرجة كبيرة وأصبح يصول ويجول فيها ويعيث فسادا يمنة ويسرة محاولا أن يستحوذ على خيراتها ويجمع الحب والتبن … وللحديث بقية .