جريدة النشرة : د. عبد الجليل أبوالمجد
إن أول ما يلاحظه المتجول في أغلب المدن المغربية هو تعايش مظاهر البداوة والتخلف مع التمدن والتحضر في كل أطرف المدن، إذ تتزاحم الفيلات الفخمة والإقامات الفاخرة مع أقفاص الصفيح، وتسير السيارات الفارهة باهضة الثمن جنب عربات الدواب، بالإضافة إلى أشغال لا تنتهي وحفر منتشرة يمينا ويسارا… إنه مغرب المفارقات بامتياز !! فما الأسباب؟ وما المطلوب؟
لا يخفى عن أحد أن ما تعانيه المناطق الريفية من قلة أساليب العيش الكريم وأدواته وانعدامها أحيانا، نتيجة خيارات الأمس وللسياسات الاقتصادية والاجتماعية المتعاقبة التي لم تؤت أكلها، ما حتم على جزء كبير من سكان البوادي الهجرة اضطرارا للبحث عن العمل واقتناص لقمة العيش في المدن المجاورة، بعد ما ضاعت الثقة وتبخر الأمل في غد أفضل، ولم يبق من خيار أمام أعداد كبيرة من شباب البوادي سوى القفز في المجهول.
وهكذا تحولت المدن المغربية في ضوء موجات الهجرة الاضطرارية إلى قرى كبيرة تفتقد للجمالية العمرانية، تأوي مساكن عشوائية تتزايد ليل نهار كالفطر فينتج عنها تفريخ الجريمة بكل أشكالها وتبعاتها، وارتفاع في نسب وأعداد المتسولين وكثرة الباعة المتجولين و… و… علاوة عن شيوع التمرد على القانون.
لاشك أن هناك عوامل ودوافع كبيرة جعلت القرى والبوادي المغربية تلفظ أبناءها وتطردهم نحو المدن، ولعل من أهمها تبعات التغير المناخي (الجفاف وشح الأمطار وتراجع المياه)، سوء تدبير الشأن المحلي، وضعف واقع حال الخدمات الاجتماعية الأساسية التي يحتاجها أبناء القرى، من طرق معبدة ومستشفيات ومراكز تدريب على المهن الجديدة والمتجددة.
هذه الهجرة غير الطبيعية جعلت المدن تفقد توازنها ويزداد تفاقم مشاكلها المتعددة. فشباب البوادي، لاسيما في المناطق شبه الصحراوية والجبلية مقتنع أن الهجرة إلى المدن هي الوسيلة الوحيدة المتبقية للإفلات من ظروف العيش القاسية التي يرزح تحت وطأتها والبحث في المدينة عن ظروف عيش مناسبة من خلال البحث عن عمل يخول العيش بعيدا عن البادية بمشاكلها (نسب الأمية مرتفعة، الهدر المدرسي، قلة التجهيزات….).
وكل هذا وذاك من المشاكل دفع بسكان البوادي، وخاصة الشباب ، إلى ترك القرية والهجرة إلى المدينة طلبا للتعليم وبحثا عن العمل في المصانع والمعامل في أحسن الأحوال مقابل أجر زهيد يوفر لهم العيش المأزوم في هوامش المدينة، حيث تمتد أحزمة الحرمان وتتوالد الانحرافات والضياع وكل أنواع الشذوذ والاختلالات.
وإذا استمر الحال على ما هو عليه في البوادي والقرى، فإنه قد يؤدي الى زحف أبناء البوادي إلى المدن الكبرى، التي تتركز فيها الثروة والموارد، بشكل قد يأخذ أشكالا وأبعادا لا يمكن توقعها.
وعليه، لا يمكن إنكار الأخطاء للحكومات المتتالية، لكن ليس من الموضوعية إنكار المنجزات. فالمغرب قام بتعبئة موارد مالية ضخمة تم وضعها رهن إشارة عدة مؤسسات قطاعية فلاحية عمومية وخاصة بهدف إنجاز مشاريع فلاحية تستطيع إدخال العالم القروي في عصر الحداثة والتكنولوجيا – (المغرب الأخضر)- إلا أن العالم القروي المغربي ما يزال يبحث عن نموذجه التنموي المفقود ، ذلك أن المجهودات المبذولة والدراسات التي أعدتها مختلف الوزارات والمجالس المنتخبة وغير المنتخبة للتخفيف من المعاناة والهشاشة تعتبر كلها وصفات وتنويعات لا تذهب إلى عمق الأزمة وأسبابها ولا تستطيع أن تنتشل طوابير المهمشين في المدن وتستوعب مشاكلهم.
تأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن التحدي الكبير الذي تعيشه دولة تسعى للنهوض بالمجتمع وتحقيق التنمية من جديد يتمثل في توجيه الجهد الأكبر للخدمات الأساسية وفرص الشغل بالبوادي بغية إبقاء الساكنة الأصلية في أماكنها بالقرى.
وقبل الختم ، المطلوب تضاعف الجهود لتحسين البنية التحتية للمناطق القروية من خلال تشجيع الاستثمار وخلق فرص الشغل، وتطوير الخدمات في المجال القروي: صحة، تعليم، نقل، ماء، كهرباء، طرق…تحسين جودة ومجانية الخدمات العمومية… علاوة على بلورة تصورات أفضل في إعداد المشاريع التنموية الحقيقية والمستدامة بالحوار الصريح مع المواطنين، وبشراكة مع المجتمع المدني المحلي.
وصفوة القول إن المدخل الأساس لأي تنمية قروية حقيقية يكمن في توفير الأساسيات لمغاربة البوادي. ولعل أفضل الحلول للمشاكل التي تعاني منها حاليا المدن المغربية تتمثل أساسا في الاهتمام بالعنصر البشري وحاجياته في البوادي من أجل خلق قوة عاملة مؤهلة ومتعلمة ومدربة، وليس بمعالجة مشاكل المدن بمعزل عن مشاكل البوادي.
وبمعنى آخر فلا فائدة من محاربة البناء العشوائي، و منع تجوال عربات الدواب، والتضييق على الباعة المتجولين في المدن دون تغيير أحوال ساكنة البوادي وتحقيق تطلعاتهم الأساسية.