مدونة الأسرة ومحاولة تغيير شرع الله
جريدة النشرة : د. عبد اللطيف سيفيا
بقية الحديث … لقد ذهلت في إطار بحثي عن أسباب فساد المجتمعات وخاصة بالبلدان العربية والإسلامية ، عندما توصلت بخبر موثوق من مصادر للمملكة العربية السعودية تفيد أن حوالي 350 ألف حالة طلاق حدثت في سنة واحدة فقط وهي سنة 2023 .. بالإضافة إلى ما توصلت إليه من خبر يفيد أن دراسة مقترحة بالمملكة المغربية جارية حول مشروع التراجع عن الزواج بعقد دائم ليحل محله عقد زواج محدد المدة في سنة أو سنتين ، تماما كما يحدث بالنسبة لعقد كراء منازل ومحلات تجارية وأراض زراعية أو رعوية … ، وما لوحظ من ارتفاع لنسبة الطلاق التي وصلت إحصائيات رسمية إلى بلوغ رقم مفجع يحدد ذلك في حوالي 1300 حالة طلاق في اليوم ، ناهيك عن حالات العزوف عن الزواج أيضا في السنوات الأخيرة التي أصبحت قياسية ، وحدث ولا حرج فيما يخص التشجيع على العلاقات الرضائية من طرف مسؤولين حكوميين ، مما يجعلنا نكرس حالة البهيمية … ويعلم الله ما تخبئ لنا الأيام القادمة من ميوعة في العلاقات الزوجية والحميمية والأسرية وغيرها قصد نسف كيان الأسرة الذي هو نواة المجتمع ومهدها وأصل ارتباط عناصرها وتعايشهم وتعاونهم وتكافلهم وتكاملهم والتي بانقراض هذا الكيان بسبب ما ستنتج عنه من مشاكل ستدفع بالشباب إلى الاكتفاء بالعزوبية ، وما أدراك ما العزوبية وما قد يترتب عنها من مخاطر وكوارث لا حدود لها ولا حصر ، مما يجعلنا نشك في أنفسنا وقدراتنا العقلية وصلاحية أفكارنا ومبادئنا وعاداتنا وتقاليدنا ومواقفنا الأخلاقية التي ستذهب سدى ، ومستوياتنا الثقافية والدراسية وكفاءاتنا العلمية التي أصبحت نشازا على عالم مغاير تماما للمسلمات الطبيعية والانسانية والأخلاقية ، لتضرب كل المستحقات عرض الحائط وتتمخض عنها ظواهر غريبة ولقيطة في المعاملات قلبت كل شيء على عقبه وخلقت مواقف غريبة عن عالمنا وإرثنا الحضاري والتاريخي والاجتماعي ، وبعيدة كل البعد عما عهدناه وتشبعنا به من ثقافة التنوع المادي و المعنوي في ظل احترام المميزات الطبيعية والفطرية المتنوعة ، داخل إطار الخطوط المعقولة والمتفق عليها منذ خلق الله العالم ، والمحددة لكل ميزات هذه المخلوقات وعلى رأسها الانسان ، حسب طبيعتها والهدف من خلقها وسر تواجدها في الحياة .
لكن بعض الجهات الآثمة شاءت أن تتلاعب بمعادلات الحياة على هذا الكوكب ، ممارسة للعديد من الأفكار والايديولوجيات المغلوطة والمقصودة الساعية إلى تسميم العقول وتلويث الأفكار وإفساد العادات والتصرفات والمعاملات في جميع الميادين والمجالات لتغيير الطباع وتحدي مقولة ” الطبع يغلب التطبع ” لدى الأفراد والمجتمعات والشعوب والدول والأمم عبر شتى الوسائل والإمكانات المادية و المعنوية المختلفة و المتنوعة التي تساهم في هدم كل أسس الإنسانية المتعارف عليها والتي تحافظ للانسان على كرامته وقيمته المستحقة والدور الهام والأساسي الذي خلق من أجله تبعا لقوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } وفي ذلك ذلك إشارة مستعملة في التعريض بالمشركين الذين انحرفوا عن الفطرة التي خُلقوا عليها فخالفوا سنتها اتباعاً لتضليل الناس ..
كما قال تعالى أيضا ” : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ”
يفيد كلام الله تعالى أنه خلق بني آدم، من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله تعالى بث منهما رجالاً كثيرا ونساء، وفرقهم، وجعلهم شعوبًا وقبائل أي: قبائل صغارًا وكبارًا، وذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك، التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوبًا وقبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها، مما يتوقف على التعارف، ولحوق الأنساب، ولكن إكرام الإنسان سيضمن بالتقوى، فأكرمهم عند الله، أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقومًا، ولا أشرفهم نسبًا، ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله، ظاهرًا وباطنًا، ممن يقوم بذلك، ظاهرًا لا باطنًا، فيجازي كلا، بما يستحق ، كما أنه سبحانه وتعالى عليم بالأسباب والمسببات والنتائج والمآلات .
وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب، مطلوبة ومشروعة، لأن الله جعلهم شعوبًا وقبائل، لأجل ذلك.
إلا أن جشع الإنسان وجهله دفع به إلى ارتكاب العديد من الأخطاء الداعية إلى التقصير في حقه تعالى وعصيان أوامره والخروج عن طاعته تعالى ، بإدخال قوانين تخص تعديل مدونة الاسرة بذريعة جعلها متلائمة مع القواعد القانونية وحاجات المجتمع المغربي والتحولات التي يشهدها … وأي تحولات !؟ هل هي تحولات نحو مجتمع للشواذ ام للدعارة على صورة ما عهدناه عند الجارة الجزائر في ظاهرة ” أم حسن ” التي كرسها الاستعمار الفرنسي كوسيلة لإفساد مجتمع إسلامي ونشر ثقافة الجنس لإتلاف الأنساب وتأصيل الميوعة في المجتمع واجتثات جذور مقوماته وعاداته وتقاليده واستئصالها بغية زرع بذور ثقافة الميوعة والتفاهة والعبث ومسح كل آثار الهوية لدى الشعوب العربية والاسلامية عامة ، خاصة وأن العديد من الجمعيات النسوية والعلمانية التي تسمي نفسها بالحقوقية وهي تعادي الدين ، قد أخذت على عاتقها المطالبة بتغيير مدونة الأسرة والخروج عن الأصل بطريقة ستمس الاسرة والخلف وتلحق بمجتمعنا الضرر وتتسبب له في الكوارث الاجتماعية الأخلاقية والتربوية ، خاصة وأن هذا الملف لم يسلم لعلماء الدين الذين لهم باع كبير في معالجة مثل هذه الأمور المصيرية بحكم تخصصهم ، ناهيك عن موقف كتاب الله الواضح فيها كالإرث مثلا الذي تم تفصيله بكل دقة وأمر إلاهي لا يحتمل الشك ولا يشمله الغموض ، بالإضافة إلى أن صاحب الجلالة الملك محمد السادس بصفته أميرا للمومنين أكد موقفه الواضح في ذلك قائلا بانه ” لن يحل ما حرم الله ولن يحرم ما أحل الله تعالى ” لكن بعض الجهات ذات النيات السيئة لا تهتم بتعليمات جلالته ، وتستمر في العبث بمصير مجتمعنا وضرب عاداتنا وتقاليدنا ، هجوما على ديننا الحنيف وقيمه وتعاليمه الربانية الصادرة عن القرآن والسنة .
فهناك مقولة شائعة تفيد انك ” إذا أردت هدم حضارة فعليك القيام بهدم هذه الأسس المجتمعية الثلاثة والمتمثلة في هدم الأسرة وهدم التعليم وإسقاط القدوة ، وللأسف الكبير هذا ما يحاول الغرب وأعداء الاسلام الاجتهاد والقيام بكل بما في وسعهم وبالوسائل المتاحة والممكنة تجاه مجتمعاتنا وجعلها تتنكر لأصولها ومرتكزات عقائدها وعاداتها وتقاليدها وتنسلخ عن كل ما له صلة بهويتها .
فهل من صحوة حقيقية ، أيها العرب والمسلمون ، تجمع شتاتكم وتقوي صفوفكم وتعيد إليكم قوة امجادكم وتضمن لكم كرامتكم وعزتكم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان ؟ … وللحديث بقية .